العلاقة بين الترجمة والثقافة

ما هي العلاقة بين الترجمة والثقافة؟

 

ما من شكٍّ في أن الحديث عن الثقافات المختلفة يستجلب بشكل تلقائي الحديث عن الترجمة ودورها في تعزيز وإثراء الوعي في المجتمعات المختلفة، فالترجمة هي عملية نقلٍ لنصٍ مكتوبٍ أو لخطابٍ منطوقٍ، يحمل في طياته معارف وثقافات تختلف بشكلٍ أو بآخر عن اللغة المنقول منها، والهدف منها هو بناءُ جسرٍ قوي بين مجتمعين مختلفين في اللغة والثقافة كذلك؛ أما الثقافة فهي تلك العادات والتقاليد والأعراف والقيم والمبادئ الراسخة في مجتمع من المجتمعات وتتناقلها الأجيال، بغرض حفظ التراث والتواصل.

يرى علماء الترجمة أن عملية الترجمة في جوهرها لا تقتصر على النقل اللغوي فحسب، بل تتعداه لتشمل النقل الثقافي أيضًا، حيث يقوم المترجم بنقل نصٍ وُلِد في ثقافة ما، إلى ثقافة أخرى قد تشبهها، وقد تختلف عنها تمام الاختلاف. ولذا فإن علماء الترجمة يرون أن المترجم يجب عليه أن يكون ثنائي اللغة bilingual، وثنائي الثقافة bicultural، على حد سواء.

العلاقة إذن بين اللغة والثقافة هي علاقة أبدية، لم تشغل اهتمام علماء اللغة فقط بمختلف تخصصاتهم (علم الدلالة، وعلم اللغة الاجتماعي، وعلم الصوتيات، ... إلخ)، بل تعدت لتشغل اهتمام علماء الترجمة المهتمين بتفاصيل النقل الثقافي للنصوص، وقسموا هذه التفاصيل إلى تفاصيل عالمية universal لا يجد المترجم صعوبة في نقلها من لغة إلى أخرى؛ بسبب دلالاتها وإيحاءاتها المتطابقة لكل البشر تقريبًا، وتفاصيل أخرى تخص ثقافة معينة؛ ويصعب نقلها كما هي إلى الثقافات الأخرى لخصوصيتها الثقافية من حيث المعنى والدلالة culture peculiarities.

وقد أطلق علماء الترجمة على هذه الظاهرة أو السمة الثقافية التي تميز ثقافة عن غيرها لفظ cultureme، والذي أصبح الشغل الشاغل لكثير من دراسات الترجمة، التي درست الاستراتيجيات التي اتبعها المترجمون في نقل هذه التفاصيل الشديدة الخصوصية من لغة إلى أخرى.

وكما يقولون "بالمثال يتضح المقال"، فأسرد هنا مثالًا عمليًا وطريفًا في الوقت ذاته، نقله الدكتور خالد توفيق، أستاذ الترجمة وعلم اللغة بجامعة القاهرة، في كتابه "نوادر الترجمة والمترجمين"، حيث يروي عن الدكتور علاء الأسواني ما ذكره في حوار تلفزيوني عن أن أسرة الدكتور الأسواني استضافت صديقة لها ألمانية الجنسية، وفي أثناء تلك الزيارة يعرض التلفاز أغنية للمطرب فريد الأطرش -رحمه الله-، وكانت كلمات الأغنية الشهيرة كالآتي:

تقول لأ

وأقول لأ

وتقول قلوبنا آه

مالوش حق

يقول لأ

اللي بيقصد آه

وحينما سألت هذه الصديقة الألمانية الأديب علاء الأسواني عن المطرب، انبرى د. علاء في الحديث عن فريد الأطرش، وعن قامته ومكانته في تاريخ الموسيقى العربية. حتى هنا وتبدو الأمور طبيعية ولا خلاف فيها، ولكن ما أن انتهى د. الأسواني من هذا السرد لتاريخ المطرب الكبير، حتى طلبت منه هذه الصديقة ترجمة كلمات الأغنية؛ حتى تفهم ما يغرد به هذا الفنان الكبير.

فما كان من د. الأسواني إلا أن ترجم كلمات الأغنية لهذه الصديقة الألمانية. وأنا أعتقد -والكلام هنا ما زال للدكتور خالد توفيق في كتابه- أن هذه الترجمة لم تخرج عن الترجمة الآتية:

 

You say, “no”

I say, “no”

Yet our hearts say, “yes”

Why does a person say, “no”?

Although deep in his/her heart

s/he means “yes”

 

فما كان من هذه الصديقة إلا أن قالت: "ما هذه السخافة"، وأردفت تقول: "طالما أن من تتحدث عنهما الأغنية يحبان بعضهما البعض، فلم لا يقولان هذا صراحة دون مواربة؟"

وهنا تظهر أهمية أو دور الاختلاف الثقافي في عملية الترجمة؛ فالدلال والتدلل هما صفة المحبوبة في ثقافتنا العربية، بينما في الثقافة الغربية، المباشرة والصراحة المطلقة هما صفة المحبوبة، التي لن يقدرها الحبيب العربي إذا جاءت إليه وصرحت بما تجيش به نفسها.

والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا، لعلنا ناقشنا بعضها في العديد من المقالات السابقة التي تتناول الاختلافات الثقافية وكيف يتعامل معها المترجم، والتي يمكنكم الرجوع إليها من هنا:

 كيف يتعامل المترجم مع الاختلافات الثقافية - الجزء الأول

كيف يتعامل المترجم مع الاختلافات الثقافية - الجزء الثاني

كيف يتعامل المترجم مع الاختلافات الثقافية - الجزء الثالث

ترجمة الكائنات والموجودات ذات الدلالات الثقافية المختلفة - الجزء الأول

ترجمة الكائنات والموجودات ذات الدلالات الثقافية المختلفة - الجزء الثاني


المراجع:

كتاب نوادر الترجمة والمترجمين – د/ خالد توفيق، الجيزة 2013 – هلا للنشر والتوزيع