المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعًا حول الترجمة - الجزء الثاني

المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعًا حول الترجمة - الجزء الثاني

 

بين الترجمة والثقافة

هناك بعض الصور المغلوطة حول العلاقة بين الترجمة والثقافة واختلاف البيئات والشعوب، فالله تعالى حين خلقنا جميعًا، جعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف، ومن أهم ما يجب أن يتعارف الناس به فيما بينهم، هو ما يختلفون فيه، فهناك الكثير من الأشياء المختلفة بين الناس حسب طبيعة كل شعبٍ وكل بيئةٍ، فما نستخدمه في حياتنا من مفردات وتراكيب ووصف للأشياء، لا يعني بالضرورة أنه موجود في كل دول العالم، وهذا من العبث في التفكير.

فلو نظرت إلى المثل العربي الشهير "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة" لوجدت أن له بالفعل مكافئ إنجليزي مشهور ومعروف أيضًا، ولكنه يُقال على نحو: "A bird in the hand is worth two in the bush"، وهنا نلاحظ أن المثل المستخدم في الثقافة الإنجليزية، يستخدم رقم 2 بدلا من 10، ولكننا نترجمها "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة"، وذلك وفقا لما يناسب ثقافتنا نحن، فالمترجم يجب أن يراعي الجانب الثقافي للمتلقي، وأن يختار ما هو شائع عنده وفي ثقافته، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد تناولنا بعضها في مقالات عدة.

المترجم التحريري والفوري

يخلط كثير من الناس بين المترجم الفوري والمترجم التحريري، ويعتقدون أن كلاهما بإمكانهما ترجمة كافة أنواع النصوص، سواء المكتوبة أو المسموعة، وهذا غير صحيح، فهناك مترجم تحريري، يُعنى بترجمة الوثائق والمستندات وكل ما هو مكتوب، وهناك مترجم فوري، يُعنى بالترجمة الفورية للمحاضرات والمؤتمرات وغيرها من الأمور التي تتطلب ترجمة شفهية سريعة لما يسمعه.

كذلك يعتقد البعض أن المترجم الفوري بإمكانه الترجمة من اللغة الهدف وإليها، وهذا غير صحيح على الدوام، فهناك من المترجمين الفوريين من يتقن الترجمة من الإنجليزية إلى العربية فقط، ولا يُحسن العكس، ومنهم من يستطيع الترجمة في كلا الاتجاهين، وهذا يعود إلى المهارات والقدرات التي يمتلكها المترجم الفوري، إذ أن الأمر يعود في الأول والأخير إلى ملكات ومهارات ذهنية وتدريب شاق يخضع له المترجم الفوري.

الترجمة الآلية والمترجم البشري

يرى كثيرٌ من الناس أن التطور التكنولوجي الحاصل في عصرنا الحالي، بما في ذلك التطور في مجال الترجمة الآلية، سيجعل الحاجة إلى المترجم البشري ضعيفة وستقل مع مرور الوقت، وأنه بالإمكان الاعتماد الكامل على الترجمة الآلية وبرامجها المختلفة والاكتفاء بها، وهذا أمرٌ خاطئٌ تمامًا أيضًا، فالعنصر البشري لا غنى عنه في عملية الترجمة، وذلك للعديد من الأسباب الجوهرية التي يصعب على الآلة استيعابها والتعامل معها، ولعل أبرزها هو ما ذكرناه آنفًا، وفي مقالات أخرى حول البعد الثقافي في عملية الترجمة، والذي تجهله الآلة ولا يمكنها استيعابه؛ فالآلات لا تفهم الثقافات، ولا يمكنها استيعاب كل الفروق الثقافية، كما أن الآلة لا يمكنها التسويق ومخاطبة العملاء المحليين كما يفعل المترجم المحترف أثناء ترجمته، كما لا يمكننا الاعتماد على التراجم الحرفية التي تصدر من الآلة، والتي تتناول الشق اللغوي والمعنى اللفظي للنص، دون المغزى والمدلول، إضافة إلى أنها تفتقر إلى اللمسة البلاغية والإبداعية في الصياغة والأسلوب، خاصة إن كان النص مترجما إلى اللغة العربية وهي أرقى اللغات بلاغةً، وأقواها أسلوبًا، وتلك من الأمور التي تستلزم وجود مترجمٍ بشريٍ متخصصٍ ومحترفٍ، حتى يخرج النص على الوجه الأمثل.

الترجمة ليست سهلة

وأخيرًا وليس آخرًا، يظن البعض أن عملية الترجمة في حد ذاتها أمرًا سهلًا يمكن لأي إنسان القيام به، وأنه لا يُشترط إخراج نص مهني محترف، بل يكفي أن نعرف ما الذي يدور حوله النص، وعلى العكس تمامًا من ذلك، فمهنة الترجمة من المهن التي تتطلب حضورًا ذهنيًا عاليًا، حيث يظل المترجم يقظًا طوال عملية الترجمة، متنبهًا للتفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، يُدوِّن ما يستحق التدوين للرجوع إليه لاحقًا، ثم يستفيض في البحث حول موضوع الترجمة، متنقلًا بين المصادر المختلفة، حتى يصل إلى الترجمة المثلى التي يرضى عنها، ولا يكون المترجم الناجح ناجحًا، حتى لا يرضى عن ترجمته التي أنجزها، فعدم الرضا هذا يسوقه إلى بذل المزيد من الجهد لإخراج نص على نحوٍ احترافي في كل مرة يُترجم فيها.