World

كيف يتعامل المترجم مع الاختلافات الثقافية - الجزء الأول

 

تعتبر الترجمة من أقدم الأعمال الإنسانية، وهي عمليةٌ لا تقتصر على النقل اللغوي للجُمل والعبارات ومعاني الكلمات فحسب، بل تمتد لتشمل البعد الثقافي أيضًا، فالمترجم كما يُعرِّفه الدكتور محمد العناني هو كاتب، أي أن عمله هو صَوْغ الأفكار في كلماتٍ موجهةٍ إلى قارئ. والفارق بينه وبين الكاتب الأصيل هو أن الأفكار التي يصوغها ليست أفكاره، بل أفكار سواه. (1)

لذا على المترجم قبل أن يشرع في ترجمة النص، عليه أن يراعي جيدًا الأبعاد والبيئة الثقافية التي وُلِد فيها هذا النص، والقارئ المتلقي له، ليُخَاطبه ليس بلغته فحسب، بل بثقافته أيضًا التي قد تشبه ثقافة المترجم، وقد تختلف عنها تمام الاختلاف؛ ومن ثمّ يرى علماء الترجمة أن المترجم ينبغي أن يكون ثنائي الثقافة bicultural مثلما هو ثنائي اللغة bilingual.

والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جدًا، ولعلّ من أبرزها مثلًا، ما ذكره العالم اللغوي البارز "ابن خالويه" أن للأسد في اللغة العربية زهاء الخمسمائة اسمًا (2)، في حين أنه يترجم في الإنجليزية باسم واحد وهو Lion.

ومن المعضلات الثقافية تلك التي واجهت المترجمين الذين نقلوا لنا إحدى قصائد شكسبير، والتي تبدأ بالبيت التالي:

Shall I compare thee to a summer’s day

فالشاعر هنا بحث في مخزونه الثقافي عن مجازٍ مأخوذٍ من جمال الطقس، فلم يجد أفضل من أحد أيام الصيف ليقارن أو بالأحرى ليُشبّه به حبيبته، وهذه الصورة وليدة الثقافة الإنجليزية المليئة بالبرد والثلوج، والتي ترى في دفء الصيف مثالًا للجمال والحنو، في حين نرى في ثقافتنا العربية أن الصيف مرتبط في الأذهان بالحرارة الشديدة، وقيظ الشمس والعرق. (3)

وهنا وقع المترجمون في حيص بيص، وانقسموا إلى قسمين: أولهما يرى أن الصورة يجب أن تُنقل كما هي، لأنها تعبر عن ثقافة تختلف عن ثقافتنا، والآخر رأى أنه يجب الاجتهاد للعثور على صورة مجازية تحمل نفس الدلالات والإيحاءات في ثقافتنا العربية، وليس ألفاظ الصورة الأصلية. ولنقرأ معًا الترجمات التالية التي تعبر عن اجتهاد المترجمين لهذا البيت:

  • هل أقول بأن فتونك أشبه بصيف جميل (المترجم: حسين دباغ) (4)
  • ألا تشبهين صفاء الصيف (المترجم: د/ محمد عناني) (5)
  • من ذا يقارن حسنك المغري بصيف قد تجلى (المترجم: صفاء خلوصي) (6)

بل قد يجتهد بعض المترجمون ويستبدلون كلمة الصيف بالربيع، على اعتبار أن الربيع في الثقافة العربية هو فصل الجمال والمرح والانطلاق، وقد يحتفظ البعض الآخر بكلمة الصيف، ولكن يدخل معها كلمة "نسمة"، فتصبح فتون المحبوبة هي أشبه ما يكون "بنسمة الصيف العليلة".

وقد تكرر الأمر نفسه مع المترجمين الذين ترجموا مسرحية "هاملت" إلى العربية، ونذكر مثالًا منها:

Hamlet: With all his crimes blown, as flush as May.

ويريد هاملت أن يقول هنا أن الجرائم والخطايا التي ارتكبها أبوه تزدهر كما تزدهر الزهور في مايو (أي في الربيع). ولنقرأ الترجمات المختلفة لهذه الصورة لثلاثة من المترجمين ثم نقارن:

  • مثل ربيع يحفل بالأزهار (ترجمة: محمد عناني)
  • مزهو كأزهار الربيع (ترجمة: عبد القادر القط)
  • كأنها الشجر في شهر آيار (ترجمة محمد عوض محمد)

وهنا نلاحظ أن كلًا من الدكتور عناني والدكتور القط قد أدركا صعوبة النقل الثقافي في هذه الصورة البلاغية، وأقصد بهذا عدم ترجمة كلمة "مايو" كما هي؛ لأنهما يدركان أن "مايو" هو قمة الربيع في إنجلترا، حيث وُلد وعاش ومات شكسبير كاتب المسرحية، وهو ما كان يقصده هاملت. ومن ثم فقد استبدلا كلمة "مايو"، والتي قد لا يعي القارئ أنها تقابل الربيع.

وهذا مالم ينتبه إليه الدكتور محمد عوض فترجم الشهر كما هو، بل وترجمه بالمقابل السرياني لشهر مايو وهو "آيار". (7) 


المراجع:

(1)- فن الترجمة – د/ محمد العناني أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة

(2)- قائمة أسماء الأسد في اللغة العربية

(3)- نوادر الترجمة والمترجمين – د/ خالد توفيق. وللمزيد من التفاصيل حول هذه القصيدة أنصح بالرجوع لكتاب الدكتور محمد عناني الرائع "فن الترجمة" صفحة 153 – الطبعة الخامسة.

(4)- مجلة أصوات – حسين دباغ – عام 1961

(5)- د. محمد عناني – صحيفة المساء – عام 1962

(6)- صفاء خلوصي – فن الترجمة عام 1986

(7)- تعليق د/ خالد توفيق على ترجمة هاملت بتصرف.