ترجمة الشعر

ترجمة الشعر

 

تعد قضية "ترجمة الشعر" من أكثر القضايا إثارة للجدل، بين الشعراء أنفسهم والنقاد والمترجمين والقراء على حد سواء، بل ومن أبرز القضايا إثارة للنقاش حول الترجمة الأدبية. وعلى الرغم من هيمنة الرأي القائل باستحالة ترجمة الشعر طيلة تاريخ الشعر، حتى بدا الأمر وكأنه بديهي، لم تنقطع أو تتوقف ترجمة الشعر ولعل من أبرز القائلين باستحالة ترجمة الشعر والمتزعم لهذا الرأي هو "أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ".

يقول الجاحظ في كتابه "الحيوان": "وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلّم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجّب لا كالكلام المنثور" (الحيوان، دار الجيل، بيروت، 1996،ج 1- ص 74-75).

ومن قول الجاحظ يتضح أنه كان يرى العرب وحدهم هم أهل الشعر والبلاغة، وأنه لا ينازعهم في هذا الأمر أحد من الأمم الأخرى، بل ويعتبر هو وغيره الكثير أن هذا الأمر من المسلمات، وبالطبع هذه الفكرة خاطئة تمامًا، إذ الشعر أمر شائع ومشترك بين كل الأمم والحضارات، كذلك الوزن الشعري والقافية ليسوا حكرًا على الشعر العربي، بل هو أمر سائد بين كل الأشعار، وعندما أدرك العرب هذه الحقيقة في مطلع القرن العشرين عبر الاندماج مع الأمم الأخرى عبر الرحلات والبعثات العلمية وغيرها، أدركوا أن الشعر ليس حكرًا عليهم وحدهم، فسارعوا إلى ترجمة شعر الأمم الأخرى لمعرفة أدب الغير من جهة ولتطوير أدب الذات من جهة أخرى.

إن مجمل المواقف المتفقة على رفض ترجمة الشعر تنطلق من أن المترجم يجب أن يكون "أمينًا" في نقل النص بمعناه وبنيته دون إخلال أو تحريف، ويرون أن الأمانة لا تكون إلا بمطابقة الترجمة للنص، ولذلك فإنه من الصعب جدا بلوغ مثل هذه الترجمة في الشعر، كما أن الرأي الرافض لترجمة الشعر يقول باستحالة نقل جميع خصائص النص الأصلي من حيث اللغة والصياغة المقبولة في الثقافة المستقبلة وتقاليدها.

ترجمة الشعر بين الممكن والمستحيل

إن ترجمة الشعر أمر واقع بالفعل، ولا يحتاج تدليلاً على إمكانيته، ويكفي لذلك برهانًا هذا الكم الكبير من القصائد التي تترجم كل يوم إلى عدد كبير من لغات العالم، ولا ينفي هذا الواقع ما يراه كثير من الباحثين من أن ترجمة الشعر أمر محفوف بالمخاطر، وذلك لاختلاف نوع اللغة المنقول منها وإليها، وما ينطوي عليه ذلك من أبعاد تاريخية وثقافية، وكذلك بنية النص وشكله وموسيقاه وإيقاعه.

تتطلب ترجمة الشعر الانتباه إلى مستويات القصيدة المتعددة، فكل مستوى دلالي يحمل رسالة أو مغزى يجب الانتباه إلى إيصاله كما في الشعر الأصلي، وهذه الرسالة قد تكون رمزية أو ضمنية كما يجب الانتباه كذلك إلى المفارقة اللغوية، حين تتم مقارنة النص مع لغة أخرى سواء ينتميان أو لا ينتميان إلى عائلة لغوية واحدة.

من متطلبات ترجمة الشعر كذلك ضرورة التحرر من ثنائية الخيانة والأمانة وفق التصور السائد عنها، وبناء مفهوم جديد لمعنى "الوفاء للنص الأصلي"، والذي لا يعني بالضرورة مطابقة النص مطابقة حرفية، إذ ينتج عن ذلك نصًا ركيكًا لا علاقة له بالشعر.

ينبغي كذلك عند ترجمة الشعر التخلي عن الفهم التقليدي للشعر على أنه نظم ووزن فحسب، والتعامل مع الإيقاع تعاملاً أوسع أفقًا من التعامل التقليدي، مما يتيح للمترجم مرونة في التصرف عند البحث عن بنية إيقاع وموسيقى تلائم النص الأصلي.

يجب على المترجم عند الإقدام على ترجمة الشعر أن يتريث ويعطي لنفسه وقتًا كبيرًا للعيش مع النص والغوص في تفاصيله، إذ طول مدة الترجمة يساعد المترجم على معايشة النص وإدراك الخصائص الفنية الكامنة والإلمام بشتى السياقات المعرفية، وهنا نؤكد على ضرورة أن يكون الدافع إلى ترجمة الشعر دافعًا "إبداعيًا" وليس دافع مادي.

يرى بعض النقاد أنه لا يتقن ترجمة الشعر إلا شاعر، لأنه يكون أكثر قدرة من غيره على تذوق النص والوصول إلى معنى الجملة الشعرية ومغزاها والرسالة التي يريد الشاعر إيصالها، فالمترجم في هذه الحالة يقوم بعملية "إبداع" جديدة في ضوء النص الموجود.

عدد كبير من عشاق الأدب يستمتعون بقراءة الشعر العالمي المترجم، على الرغم من تضاؤل حركة الترجمة للشعر العالمي في السنوات الأخيرة، ولقد برع عدد كبير من الشعراء العرب في ترجمة الشعر، حتى إنهم تفوقوا بذلك على نتاجهم الشعري.

إن الشعر هو ذروة سنام الإبداع البشري، فلو أن هناك نمط من أنماط الترجمة يستحق أن يطلق عليه "إبداعي"، فسيكون للشعر النصيب الأكبر من هذا الاسم، وذلك لأنه يعبر عن مكنون النفس البشرية وما يدور في خلجاتها من أفكار ومشاعر بصورة بلاغية فريدة.